الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
[الْخُلُقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ مُجَاهِدٌ: لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ. وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا كَانَ يَأْمُرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَعَلَى الْخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ. فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ شَيْئًا. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ، فَسَأَلَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمُطَاعِ مَعَ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ. الثَّانِي: أَخْذُهُ مِنْهُمْ مَا يَبْذُلُونَهُ مِمَّا عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ مَعَهُ قِسْمَانِ: مُوَافِقٌ لَهُ مُوَالٍ، وَمُعَادٍ لَهُ مُعَارِضٌ. وَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ وَاجِبٌ. فَوَاجِبُهُ فِي أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ: أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي بِهِ صَلَاحُهُمْ وَصَلَاحُ شَأْنِهِمْ. وَيَنْهَاهُمْ عَنْ ضِدِّهِ. وَوَاجِبُهُ فِيمَا يَبْذُلُونَهُ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ، وَطُوِّعَتْ لَهُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، سَمَاحَةً وَاخْتِيَارًا. وَلَا يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ فَيُفْسِدَهُمْ. وَوَاجِبُهُ عِنْدَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ عَلَيْهِ: الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ. وَعَدَمُ مُقَابَلَتِهِمْ بِالْمِثْلِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَخْسِيسٍ، مِثْلَ قَبُولِ الْأَعْذَارِ، وَالْعَفْوِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَتَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَحْثِ، وَالتَّفْتِيشِ عَنْ حَقَائِقِ بَوَاطِنِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَهُوَ الْفَاضِلُ عَنِ الْعِيَالِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وَهُوَ كُلُّ مَعْرُوفٍ. وَأَعْرَفُهُ: التَّوْحِيدُ. ثُمَّ حُقُوقُ الْعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقُ الْعَبِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} يَعْنِي إِذَا سَفِهَ عَلَيْكَ الْجَاهِلُ فَلَا تُقَابِلْهُ بِالسَّفَهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. بَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ مَعَ إِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ. وَهَكَذَا كَانَ خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا. وَقَالَ: مَا مَسَسْتُ دِيبَاجًا وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا شَمَمْتُ رَائِحَةً قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَقَدْ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ. فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ. وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْبِرَّ: هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ. وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ. وَأَخْبَرَ: أَنَّ الْبِرَّ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْإِثْمَ: حَوَازُ الصُّدُورِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ. وَهُوَ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ. وَلِهَذَا قَابَلَهُ بِالْإِثْمِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ الْبِرُّ: مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ , وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِأَنَّهُ الْبِرُّ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ. وَالْإِثْمُ حَوَازُ الصُّدُورِ، وَمَا حَاكَ فِيهَا، وَاسْتَرَابَتْ بِهِ. وَهَذَا غَيْرُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَسُوئِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيَارُكُمْ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِيهِ أَيْضًا- وَصَحَّحَهُ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ. وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَحَّحَهُ- إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا. وَخِيَارُكُمْ: خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ: لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا. وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ: لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ. وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا. وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ. وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ. وَفِي التِّرْمِذِيَّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا. وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدِكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ. فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ. الثَّرْثَارُ: هُوَ كَثِيرُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ. وَالْمُتَشَدِّقُ: الْمُتَكَلِّمُ بِمِلْءِ فِيهِ تَفَاصُحًا وَتَعَاظُمًا وَتَطَاوُلًا، وَإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَهْقِ. وَهُوَ الِامْتِلَاءُ.
الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ: زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ. وَكَذَلِكَ التَّصَوُّفُ. قَالَ الْكِنَانِيُّ: التَّصَوُّفُ هُوَ الْخُلُقُ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ: فَقَدْ زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ حَقِيقَتُهُ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى. وَقِيلَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ. وَقِيلَ: التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ. وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ سَاقِهِ إِلَّا عَلَيْهَا: الصَّبْرُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدْلُ. فَالصَّبْرُ: يَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ، وَعَدَمِ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ. وَالْعِفَّةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى اجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ. وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ. وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، وَالْبُخْلِ وَالْكَذِبِ، وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ. وَالشَّجَاعَةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَإِيثَارِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، وَعَلَى الْبَذْلِ وَالنَّدَى، الَّذِي هُوَ شَجَاعَةُ النَّفْسِ وَقُوَّتُهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْمَحْبُوبِ وَمُفَارَقَتِهِ. وَتَحْمِلُهُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحِلْمِ. فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَشَجَاعَتِهَا يُمْسِكُ عِنَانَهَا، وَيَكْبَحُهَا بِلِجَامِهَا عَنِ النَّزْغِ وَالْبَطْشِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَهُوَ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ، وَهِيَ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى قَهْرِ خَصْمِهِ. وَالْعَدْلُ: يَحْمِلُهُ عَلَى اعْتِدَالِ أَخْلَاقِهِ، وَتَوَسُّطِهِ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. فَيَحْمِلُهُ عَلَى خُلُقِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْقِحَةِ. وَعَلَى خُلُقِ الشَّجَاعَةِ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ. وَعَلَى خُلُقِ الْحِلْمِ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْمَهَانَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ. وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ، وَبِنَاؤُهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: الْجَهْلُ. وَالظُّلْمُ. وَالشَّهْوَةُ. وَالْغَضَبُ. فَالْجَهْلُ: يُرِيهِ الْحَسَنَ فِي صُورَةِ الْقَبِيحِ، وَالْقَبِيحَ فِي صُورَةِ الْحَسَنِ. وَالْكَمَالَ نَقْصًا وَالنَّقْصَ كَمَالًا. وَالظُّلْمُ: يَحْمِلُهُ عَلَى وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَيَغْضَبُ فِي مَوْضِعِ الرِّضَا. وَيَرْضَى فِي مَوْضِعِ الْغَضَبِ. وَيَجْهَلُ فِي مَوْضِعِ الْأَنَاةِ. وَيَبْخَلُ فِي مَوْضِعِ الْبَذْلِ. وَيَبْذُلُ فِي مَوْضِعِ الْبُخْلِ. وَيُحْجِمُ فِي مَوْضِعِ الْإِقْدَامِ. وَيُقْدِمُ فِي مَوْضِعِ الْإِحْجَامِ. وَيَلِينُ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وَيَشْتَدُّ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ. وَيَتَوَاضَعُ فِي مَوْضِعِ الْعِزَّةِ. وَيَتَكَبَّرُ فِي مَوْضِعِ التَّوَاضُعِ. وَالشَّهْوَةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَعَدَمِ الْعِفَّةِ وَالنَّهْمَةِ وَالْجَشَعِ، وَالذُّلِّ وَالدَّنَاءَاتِ كُلِّهَا. وَالْغَضَبُ: يَحْمِلُهُ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالْعُدْوَانِ وَالسَّفَهِ. وَيَتَرَكَّبُ مِنْ بَيْنِ كُلِّ خُلُقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ: أَخْلَاقٌ مَذْمُومَةٌ. وَمِلَاكُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَصْلَانِ: إِفْرَاطُ النَّفْسِ فِي الضَّعْفِ، وَإِفْرَاطُهَا فِي الْقُوَّةِ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِفْرَاطِهَا فِي الضَّعْفِ: الْمَهَانَةُ وَالْبُخْلُ، وَالْخِسَّةُ وَاللُّؤْمُ، وَالذُّلُّ وَالْحِرْصُ، وَالشُّحُّ وَسَفْسَافُ الْأُمُورِ وَالْأَخْلَاقِ. وَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِفْرَاطِهَا فِي الْقُوَّةِ: الظُّلْمُ وَالْغَضَبُ وَالْحِدَّةُ، وَالْفُحْشُ وَالطَّيْشُ. وَيَتَوَلَّدُ مِنْ تَزَوُّجِ أَحَدِ الْخُلُقَيْنِ بِالْآخَرِ أَوْلَادُ غِيَّةٍ كَثِيرُونَ. فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَجْمَعُ قُوَّةً وَضَعْفًا. فَيَكُونُ صَاحِبُهَا أَجْبَرَ النَّاسِ إِذَا قَدَرَ، وَأَذَلَّهُمْ إِذَا قُهِرَ، ظَالِمًا عَنُوفًا جَبَّارًا. فَإِذَا قُهِرَ صَارَ أَذَلَّ مِنِ امْرَأَةٍ: جَبَانًا عَنِ الْقَوِيِّ، جَرِيئًا عَلَى الضَّعِيفِ. فَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ: يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ: يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَكُلُّ خُلُقٍ مَحْمُودٍ مُكْتَنَفٌ بِخُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ. وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا. وَطَرَفَاهُ خُلُقَانِ ذَمِيمَانِ، كَالْجُودِ: الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقَا الْبُخْلِ وَالتَّبْذِيرِ. وَالتَّوَاضُعِ: الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقَا الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ. وَالْكِبْرِ وَالْعُلُوِّ. فَإِنَّ النَّفْسَ مَتَى انْحَرَفَتْ عَنِ التَّوَسُّطِ انْحَرَفَتْ إِلَى أَحَدِ الْخُلُقَيْنِ الذَّمِيمَيْنِ وَلَا بُدَّ، فَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ التَّوَاضُعِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى كِبْرٍ وَعُلُوٍّ، وَإِمَّا إِلَى ذُلٍّ وَمَهَانَةٍ وَحَقَارَةٍ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْحَيَاءِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى قِحَةٍ وَجُرْأَةٍ، وَإِمَّا إِلَى عَجْزٍ وَخَوَرٍ وَمَهَانَةٍ، بِحَيْثُ يُطْمِعُ فِي نَفْسِهِ عَدُوَّهُ. وَيَفُوتُهُ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِ. وَيَزْعُمُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَيَاءُ. وَإِنَّمَا هُوَ الْمَهَانَةُ وَالْعَجْزُ، وَمَوْتُ النَّفْسِ. وَكَذَلِكَ إِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الصَّبْرِ الْمَحْمُودِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى جَزَعٍ وَهَلَعٍ وَجَشَعٍ وَتَسَخُّطٍ، وَإِمَّا إِلَى غِلْظَةِ كَبِدٍ، وَقَسْوَةِ قَلْبٍ، وَتَحَجُّرِ طَبْعٍ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: تَبْكِي عَلَيْنَا. وَلَا نَبْكِي عَلَى أَحَدٍ فَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكْبَادًا مِنَ الْإِبِلِ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْحِلْمِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى الطَّيْشِ وَالتَّرَفِ وَالْحِدَّةِ وَالْخِفَّةِ، وَإِمَّا إِلَى الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالْحَقَارَةِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ حِلْمُهُ حِلْمُ ذُلٍّ وَمَهَانَةٍ وَحَقَارَةٍ وَعَجْزٍ، وَبَيْنَ مَنْ حِلْمُهُ حِلْمُ اقْتِدَارٍ وَعَزَّةٍ وَشَرَفٍ. كَمَا قِيلَ: كُلُّ حِلْمٍ أَتَى بِغَيْرِ اقْتِدَارٍ *** حُجَّةٌ لَاجِئٌ إِلَيْهَا اللِّئَامُ وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى عَجَلَةٍ وَطَيْشٍ وَعُنْفٍ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ. وَالرِّفْقُ وَالْأَنَاةُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْعِزَّةِ الَّتِي وَهَبَهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى كِبْرٍ، وَإِمَّا إِلَى ذُلٍّ. وَالْعِزَّةُ الْمَحْمُودَةُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الشَّجَاعَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى تَهَوُّرٍ وَإِقْدَامٍ غَيْرِ مَحْمُودٍ، وَإِمَّا إِلَى جُبْنٍ وَتَأَخُّرٍ مَذْمُومٍ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْمُنَافَسَةِ فِي الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ وَالْغِبْطَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى حَسَدٍ، وَإِمَّا إِلَى مَهَانَةٍ، وَعَجْزٍ وَذُلٍّ وَرِضَا بِالدُّونِ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنِ الْقَنَاعَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى حِرْصٍ وَكَلَبٍ، وَإِمَّا إِلَى خِسَّةٍ وَمَهَانَةٍ وَإِضَاعَةٍ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الرَّحْمَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى قَسْوَةٍ، وَإِمَّا إِلَى ضَعْفِ قَلْبٍ وَجُبْنِ نَفْسٍ، كَمَنْ لَا يَقْدَمُ عَلَى ذَبْحِ شَاةٍ، وَلَا إِقَامَةِ حَدٍّ، وَتَأْدِيبِ وَلَدٍ. وَيَزْعُمُ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ذَبَحَ أَرْحَمُ الْخَلْقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً. وَقَطَعَ الْأَيْدِيَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَضَرَبَ الْأَعْنَاقَ. وَأَقَامَ الْحُدُودَ وَرَجَمَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتَ الْمَرْجُومُ. وَكَانَ أَرْحَمَ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَرْأَفَهُمْ. وَكَذَلِكَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَالْبِشْرُ الْمَحْمُودُ. فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ التَّعْبِيسِ وَالتَّقْطِيبِ وَتَصْعِيرِ الْخَدِّ، وَطَيِّ الْبِشْرِ عَنِ الْبَشَرِ، وَبَيْنَ الِاسْتِرْسَالِ بِذَلِكَ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، بِحَيْثُ يُذْهِبُ الْهَيْبَةَ، وَيُزِيلُ الْوَقَارَ، وَيُطْمِعُ فِي الْجَانِبِ، كَمَا أَنَّ الِانْحِرَافَ الْأَوَّلَ يُوقِعُ الْوَحْشَةَ وَالْبَغْضَةَ، وَالنُّفْرَةَ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ. وَصَاحِبُ الْخُلُقِ الْوَسَطِ: مَهِيبٌ مَحْبُوبٌ، عَزِيزٌ جَانِبُهُ، حَبِيبٌ لِقَاؤُهُ. وَفِي صِفَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ. وَمَنْ خَالَطَهُ عِشْرَةً أَحَبَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
نَافِعٌ جِدًّا عَظِيمُ النَّفْعِ لِلسَّالِكِ. يُوصِلُهُ عَنْ قَرِيبٍ، وَيُسَيِّرُهُ بِأَخْلَاقِهِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا. فَإِنَّ أَصْعَبَ مَا عَلَى الطَّبِيعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهَا. وَأَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ الصَّعْبَةِ وَالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ إِنَّمَا عَمِلُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَظْفَرْ أَكْثَرُهُمْ بِتَبْدِيلِهَا. لَكِنَّ النَّفْسَ اشْتَغَلَتْ بِتِلْكَ الرِّيَاضَاتِ عَنْ ظُهُورِ سُلْطَانِهَا. فَإِذَا جَاءَ سُلْطَانُ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَبَرَزَ: كَسَرَ جُيُوشَ الرِّيَاضَةِ وَشَتَّتَهَا. وَاسْتَوْلَى عَلَى مَمْلَكَةِ الطَّبْعِ. وَهَذَا فَصْلٌ يَصِلُ بِهِ السَّالِكُ مَعَ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ. وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجِهَا وَإِزَالَتِهَا. وَيَكُونُ سَيْرُهُ أَقْوَى وَأَجَلَّ وَأَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ الْعَامِلِ عَلَى إِزَالَتِهَا. وَنُقَدِّمُ قَبْلَ هَذَا مَثَلًا نَضْرِبُهُ. مُطَابِقًا لِمَا نُرِيدُهُ. وَهُوَ: نَهْرٌ جَارٍ فِي صَبَبِهِ وَمُنْحَدَرِهِ، وَمُنْتَهٍ إِلَى تَغْرِيقِ أَرْضٍ وَعُمْرَانٍ وَدُورٍ. وَأَصْحَابُهَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يُخَرِّبَ دُورَهُمْ. وَيُتْلِفَ أَرَاضِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. فَانْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ. فِرْقَةٌ صَرَفَتْ قُوَاهَا وَقُوَى أَعْمَالِهَا إِلَى سَكْرِهِ وَحَبْسِهِ وَإِيقَافِهِ. فَلَا تَصْنَعُ هَذِهِ الْفِرْقَةُ كَبِيرَ أَمْرٍ. فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَجْتَمِعَ ثُمَّ يَحْمِلَ عَلَى السَّكْرِ، فَيَكُونُ إِفْسَادُهُ وَتَخْرِيبُهُ أَعْظَمَ. وَفِرْقَةٌ رَأَتْ هَذِهِ الْحَالَةَ. وَعَلِمَتْ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا. فَقَالَتْ: لَا خَلَاصَ مِنْ مَحْذُورِهِ إِلَّا بِقَطْعِهِ مِنْ أَصْلِ الْيَنْبُوعِ. فَرَامَتْ قَطْعَهُ مِنْ أَصْلِهِ. فَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا ذَلِكَ غَايَةَ التَّعَذُّرِ، وَأَبَتِ الطَّبِيعَةُ النَّهْرِيَّةُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَهُمْ دَائِمًا فِي قَطْعِ الْيَنْبُوعِ، وَكُلَّمَا سَدُّوهُ مِنْ مَوْضِعٍ نَبَعَ مِنْ مَوْضِعٍ، فَاشْتَغَلَ هَؤُلَاءِ بِشَأْنِ هَذَا النَّهْرِ عَنِ الزِّرَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ. فَجَاءَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ، خَالَفَتْ رَأْيَ الْفِرْقَتَيْنِ. وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَاعَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ. فَأَخَذُوا فِي صَرْفِ ذَلِكَ النَّهْرِ عَنْ مَجْرَاهُ الْمُنْتَهِي إِلَى الْعُمْرَانِ، فَصَرَفُوهُ إِلَى مَوْضِعٍ يَنْتَفِعُونَ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ. وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. فَصَرَفُوهُ إِلَى أَرْضٍ قَابِلَةٍ لِلنَّبَاتِ. وَسَقَوْهَا بِهِ. فَأَنْبَتَتْ أَنْوَاعَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ وَالثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَصْنَافِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ هُمْ أَصْوَبَ الْفِرَقِ فِي شَأْنِ هَذَا النَّهْرِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْمَثَلُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ: أَنْ رَكَّبَ الْإِنْسَانَ- بَلْ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ- عَلَى طَبِيعَةٍ مَحْمُولَةٍ عَلَى قُوَّتَيْنِ: غَضَبِيَّةٍ. وَشَهْوَانِيَّةٍ. وَهِيَ الْإِرَادِيَّةُ. وَهَاتَانِ الْقُوَّتَانِ هُمَا الْحَامِلَتَانِ لِأَخْلَاقِ النَّفْسِ وَصِفَاتِهَا. وَهُمَا مَرْكُوزَتَانِ فِي جِبِلَّةِ كُلِّ حَيَوَانٍ. فَبِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ: يَجْذِبُ الْمَنَافِعَ إِلَى نَفْسِهِ. وَبِقُوَّةِ الْغَضَبِ: يَدْفَعُ الْمَضَارَّ عَنْهَا. فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الشَّهْوَةَ فِي طَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ: تَوَلَّدَ مِنْهَا الْحِرْصُ. وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْغَضَبَ فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ: تَوَلَّدَ مِنْهُ الْقُوَّةُ وَالْغَيْرَةُ. فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ الضَّارِّ: أَوْرَثَهُ قُوَّةَ الْحِقْدِ. وَإِنْ أَعْجَزَهُ وُصُولُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَرَأَى غَيْرَهُ مُسْتَبِدًّا بِهِ: أَوْرَثَهُ الْحَسَدَ. فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ: أَوْرَثَتْهُ شِدَّةُ شَهْوَتِهِ وَإِرَادَتُهُ: خُلُقَ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ. وَإِنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ وَشَهْوَتُهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، فَاسْتَعْمَلَهَا فِيهِ: أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الْعُدْوَانَ، وَالْبَغْيَ وَالظُّلْمَ. وَمِنْهُ يَتَوَلَّدُ: الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ. فَإِنَّهَا أَخْلَاقٌ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ بَيْنِ قُوَّتَيِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، وَتَزَوُّجِ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَالنَّهْرُ مِثَالُ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ. وَهُوَ مُنْصَبٌّ فِي جَدْوَلِ الطَّبِيعَةِ وَمَجْرَاهَا إِلَى دُورِ الْقَلْبِ وَعُمْرَانِهِ وَحَوَاصِلِهِ، يُخَرِّبُهَا وَيُتْلِفُهَا وَلَا بُدَّ. فَالنُّفُوسُ الْجَاهِلَةُ الظَّالِمَةُ تَرَكَتْهُ وَمَجْرَاهُ. فَخَرَّبَ دِيَارَ الْإِيمَانِ. وَقَلَعَ آثَارَهُ. وَهَدَمَ عُمْرَانَهُ. وَأَنْبَتَ مَوْضِعَهَا كُلَّ شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ، مِنْ حَنْظَلٍ وَضَرِيعٍ وَشَوْكٍ وَزَقُّومٍ. وَهُوَ الَّذِي يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْمَعَادِ. وَأَمَّا النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ الْفَاضِلَةُ: فَإِنَّهَا رَأَتْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا النَّهَرِ. فَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ. فَأَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَالْخَلَوَاتِ وَالتَّمْرِينَاتِ: رَامُوا قَطْعَهُ مِنْ يَنْبُوعِهِ. فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا طَبَعَ عَلَيْهِ الْجِبِلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ. وَلَمْ تَنْقَدْ لَهُ الطَّبِيعَةُ. فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ. وَدَامَ الْحَرْبُ. وَحَمِيَ الْوَطِيسُ. وَصَارَتِ الْحَرْبُ دُوَلًا وَسِجَالًا. وَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَاهُمْ إِلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ. وَفِرْقَةٌ أَعْرَضُوا عَنْهَا. وَشَغَلُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ. وَلَمْ يُجِيبُوا دَوَاعِيَ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَعَ تَخْلِيَتِهِمْ إِيَّاهَا عَلَى مَجْرَاهَا، لَكِنْ لَمْ يُمَكِّنُوا نَهْرَهَا مِنْ إِفْسَادِ عُمْرَانِهِمْ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِتَحْصِينِ الْعُمْرَانِ، وَإِحْكَامِ بِنَائِهِ وَأَسَاسِهِ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ النَّهْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ. فَإِذَا وَصَلَ وَصَلَ إِلَى بِنَاءٍ مُحْكَمٍ فَلَمْ يَهْدِمْهُ. بَلْ أَخَذَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا. فَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَّةَ عَزِيمَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ فِي الْعِمَارَةِ، وَإِحْكَامِ الْبِنَاءِ. وَأُولَئِكَ صَرَفُوهَا فِي قَطْعِ الْمَادَّةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَصْلِهَا، خَوْفًا مِنْ هَدْمِ الْبِنَاءِ. وَسَأَلْتُ يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَطْعِ الْآفَاتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِتَنْقِيَةِ الطَّرِيقِ وَتَنْظِيفِهَا؟ فَقَالَ لِي جُمْلَةَ كَلَامِهِ: النَّفْسُ مِثْلُ الْبَاطُوسِ- وَهُوَ جُبُّ الْقَذَرِ- كُلَّمَا نَبَشْتَهُ ظَهَرَ وَخَرَجَ. وَلَكِنْ إِنْ أَمْكَنَكَ أَنْ تَسْقَفَ عَلَيْهِ، وَتَعْبُرَهُ وَتَجُوزَهُ، فَافْعَلْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِنَبْشِهِ. فَإِنَّكَ لَنْ تَصِلَ إِلَى قَرَارِهِ. وَكُلَّمَا نَبَشْتَ شَيْئًا ظَهَرَ غَيْرُهُ. فَقُلْتُ: سَأَلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْضَ الشُّيُوخِ؟ فَقَالَ لِي: مِثَالُ آفَاتِ النَّفْسِ مِثَالُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسَافِرِ. فَإِنْ أَقْبَلَ عَلَى تَفْتِيشِ الطَّرِيقِ عَنْهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِقَتْلِهَا: انْقَطَعَ. وَلَمْ يُمْكِنْهُ السَّفَرُ قَطُّ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ هِمَّتُكَ الْمَسِيرَ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. فَإِذَا عَرَضَ لَكَ فِيهَا مَا يَعُوقُكَ عَنِ الْمَسِيرِ فَاقْتُلْهُ. ثُمَّ امْضِ عَلَى سَيْرِكَ. فَاسْتَحْسَنَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ جِدًّا. وَأَثْنَى عَلَى قَائِلِهِ. إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا. فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: رَأَتْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا عَبَثًا. وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَاءٍ يُسْقَى بِهِ الْوَرْدُ، وَالشَّوْكُ، وَالثِّمَارُ، وَالْحَطَبُ، وَأَنَّهَا صَوَّانٌ وَأَصْدَافٌ لِجَوَاهِرَ مُنْطَوِيَةٍ عَلَيْهَا. وَأَنَّ مَا خَافَ مِنْهَا أُولَئِكَ هُوَ نَفْسُ سَبَبِ الْفَلَاحِ وَالظَّفَرِ. فَرَأَوْا أَنَّ الْكِبْرَ نَهْرٌ يُسْقَى بِهِ الْعُلُوُّ وَالْفَخْرُ، وَالْبَطَرُ وَالظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ. وَيُسْقَى بِهِ عُلُوُّ الْهِمَّةِ، وَالْأَنَفَةُ، وَالْحَمِيَّةُ، وَالْمُرَاغَمَةُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَهْرُهُمْ وَالْعُلُوُّ عَلَيْهِمْ. وَهَذِهِ دُرَّةٌ فِي صَدَفَتِهِ. فَصَرَفُوا مَجْرَاهُ إِلَى هَذَا الْغِرَاسِ. وَاسْتَخْرَجُوا هَذِهِ الدُّرَّةَ مِنْ صَدَفَتِهِ. وَأَبْقَوْهُ عَلَى حَالِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. لَكِنِ اسْتَعْمَلُوهُ حَيْثُ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ أَنْفَعَ. وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَقَالَ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ، إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَّى مَجْرَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا الْخُلُقِ يَجْرِي فِي أَحْسَنِ مَوَاضِعِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ- وَأَظُنُّهُ فِي الْمُسْنَدِ- إِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ. وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُهَا اللَّهُ. فَالْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ: اخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ، وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ. فَانْظُرْ كَيْفَ صَارَتِ الصِّفَةُ الْمَذْمُومَةُ عُبُودِيَّةً؟ وَكَيْفَ اسْتَحَالَ الْقَاطِعُ مُوصِلًا؟ فَصَاحِبُ الرِّيَاضَاتِ، وَالْعَامِلُ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهِدَاتِ، وَالْخَلَوَاتِ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، إِنَّمَا يُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي الْآفَاتِ، وَالشُّبُهَاتِ، وَالضَّلَالَاتِ. فَإِنَّ تَزْكِيَةَ النُّفُوسِ مُسَلَّمٌ إِلَى الرُّسُلِ. وَإِنَّمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ لِهَذِهِ التَّزْكِيَةِ وَوَلَّاهُمْ إِيَّاهَا. وَجَعَلَهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ دَعْوَةً، وَتَعْلِيمًا وَبَيَانًا، وَإِرْشَادًا، لَا خَلْقًا وَلَا إِلْهَامًا. فَهُمُ الْمَبْعُوثُونَ لِعِلَاجِ نُفُوسِ الْأُمَمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وقال تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}. وَتَزْكِيَةُ النُّفُوسِ: أَصْعَبُ مِنْ عِلَاجِ الْأَبْدَانِ وَأَشَدُّ. فَمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَالْخَلْوَةِ، الَّتِي لَمْ يَجِئْ بِهَا الرُّسُلُ: فَهُوَ كَالْمَرِيضِ الَّذِي عَالَجَ نَفْسَهُ بِرَأْيِهِ، وَأَيْنَ يَقَعُ رَأْيُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الطَّبِيبِ؟ فَالرُّسُلُ أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ. فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَزْكِيَتِهَا وَصَلَاحِهَا إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِمْ. وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، وَبِمَحْضِ الِانْقِيَادِ، وَالتَّسْلِيمِ لَهُمْ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الْخُلُقُ كَسْبِيًّا، أَوْ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْكَسْبِ؟. قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ كَسْبِيًّا بِالتَّخَلُّقِ وَالتَّكَلُّفِ. حَتَّى يَصِيرَ لَهُ سَجِيَّةً وَمَلَكَةً وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ. فَقَالَ: أَخُلُقَيْنَ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا. أَمْ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: بَلْ جَبَلَكَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْخُلُقِ: مَا هُوَ طَبِيعَةٌ وَجِبِلَّةٌ، وَمَا هُوَ مُكْتَسَبٌ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ. لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ فَذَكَرَ الْكَسْبَ وَالْقَدَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْخُلُقُ: مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّفُ مِنْ نِعْمَتِهِ. أَيْ خُلُقُ كُلِّ مُتَكَلِّفٍ: فَهُوَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ نُعُوتُهُ. فَتَكَلُّفُهُ يَرُدُّهُ إِلَى خُلُقِهِ. كَمَا قِيلَ: إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ. وَقَالَ الْآخَرُ: يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ *** وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ فَمُتَكَلِّفُ مَا لَيْسَ مِنْ نَعْتِهِ وَلَا شِيمَتِهِ: يَرْجِعُ إِلَى شِيمَتِهِ، وَنَعْتِهِ، وَسَجِيَّتِهِ. فَذَاكَ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ: هُوَ الْخُلُقُ. قَالَ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ النَّاطِقِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ: أَنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ الْخُلُقُ. وَجَمِيعُ الْكَلَامِ فِيهِ يَدُورُ عَلَى قُطْبٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى. قُلْتُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهَا ثَلَاثَةً: كَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، وَإِيجَادُ الرَّاحَةِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ يَجْعَلُهَا اثْنَيْنِ- كَمَا قَالَ الشَّيْخُ- بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهَا إِلَى وَاحِدٍ. وَهُوَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ. وَالْكُلُّ صَحِيحٌ. قَالَ وَإِنَّمَا يُدْرَكُ إِمْكَانُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. فِي الْعِلْمِ، وَالْجُودِ، وَالصَّبْرِ. فَالْعِلْمُ يُرْشِدُهُ إِلَى مَوَاقِعِ بَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْكَرِ، وَتَرْتِيبِهِ فِي وَضْعِهِ مَوَاضِعَهُ. فَلَا يَضَعُ الْغَضَبَ مَوْضِعَ الْحِلْمِ. وَلَا بِالْعَكْسِ، وَلَا الْإِمْسَاكَ مَوْضِعَ الْبَذْلِ، وَلَا بِالْعَكْسِ. بَلْ يَعْرِفُ مَوَاقِعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَرَاتِبَهَا، وَمَوْضِعَ كُلِّ خُلُقٍ: أَيْنَ يَضَعُهُ، وَأَيْنَ يُحْسِنُ اسْتِعْمَالَهُ. وَالْجُودُ يَبْعَثُهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِحُقُوقِ نَفْسِهِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ مِنْهَا بِحُقُوقِ غَيْرِهِ. فَالْجُودُ هُوَ قَائِدُ جُيُوشِ الْخَيْرِ. وَالصَّبْرُ يَحْفَظُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةَ ذَلِكَ. وَيَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَعَدَمِ الْمُقَابَلَةِ. وَعَلَى كُلِّ خَيْرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ أَكْبَرُ الْعَوْنِ عَلَى نَيْلِ كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْيَاءَ: بِهَا يُدْرَكُ التَّصَوُّفُ، وَالتَّصَوُّفُ: زَاوِيَةٌ مِنْ زَوَايَا السُّلُوكِ الْحَقِيقِيِّ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا. لِتَسْتَعِدَّ لِسَيْرِهَا إِلَى صُحْبَةِ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَمَعِيَّةِ مَنْ تُحِبُّهُ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. كَمَاقَالَ سُمْنُونُ: ذَهَبَ الْمُحِبُّونَ بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَعْرِفَ مَقَامَ الْخَلْقِ. وَأَنَّهُمْ بِأَقْدَارِهِمْ مَرْبُوطُونَ. وَفِي طَاقَتِهِمْ مَحْبُوسُونَ. وَعَلَى الْحُكْمِ مَوْقُوفُونَ. فَتَسْتَفِيدَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَمْنَ الْخَلْقِ مِنْكَ، حَتَّى الْكَلَبِ. وَمَحَبَّةُ الْخَلْقِ إِيَّاكَ، وَنَجَاةُ الْخَلْقِ بِكَ. فَبِهَذِهِ الدَّرَجَةِ: يَكُونُ تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَكَيْفِيَّةِ مُصَاحَبَتِهِمْ. وَبِالثَّانِيَةِ: تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ. وَبِالثَّالِثَةِ: دَرَجَةُ الْفَنَاءِ عَلَى قَاعِدَتِهِ وَأَصْلِهِ. يَقُولُ: إِذَا عَرَفْتَ مَقَامَ الْخَلْقِ، وَمَقَادِيرَهُمْ، وَجَرَيَانَ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُقَيَّدُونَ بِالْقَدَرِ، لَا خُرُوجَ لَهُمْ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَحْبُوسُونَ فِي قُدْرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ. لَا يُمْكِنُهُمْ تَجَاوُزُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَأَنَّهُمْ مَوْقُوفُونَ عَلَى الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ لَا يَتَعَدَّوْنَهُ، اسْتَفَدْتَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَمْنَ الْخَلْقِ مِنْكَ. وَذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ. لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وَامْتَثَلَ فِيهِمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُمْ. فَأَمِنُوا مِنْ تَكْلِيفِهِ إِيَّاهُمْ. وَإِلْزَامِهِ لَهُمْ مَا لَيْسَ فِي قُوَاهُمْ وَقُدَرِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَأْمَنُونَ لَائِمَتَهُ. فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَاذِرٌ لَهُمْ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيمَا لَمْ يَأْمُرِ الشَّرْعُ بِإِقَامَتِهِ فِيهِمْ. لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَحْبُوسِينَ فِي طَاقَتِهِمْ فَيَنْبَغِي مُطَالَبَتُهُمْ بِمَا يُطَالَبُ بِهِ الْمَحْبُوسُ، وَعُذْرُهُمْ بِمَا يُعْذَرُ بِهِ الْمَحْبُوسُ. وَإِذَا بَدَا مِنْهُمْ فِي حَقِّكَ تَقْصِيرٌ أَوْ إِسَاءَةٌ، أَوْ تَفْرِيطٌ. فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِهِ وَلَا تُخَاصِمْهُمْ. بَلِ اغْفِرْ لَهُمْ ذَلِكَ وَاعْذُرْهُمْ. نَظَرًا إِلَى جَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ آلَةٌ. وَهَاهُنَا يَنْفَعُكَ الْفَنَاءُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ عَنْ شُهُودِ جِنَايَتِهِمْ عَلَيْكَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لِرَجُلٍ تَعَدَّى عَلَيْهِ وَظَلَمَهُ: إِنْ كُنْتَ ظَالِمًا فَالَّذِي سَلَّطَكَ عَلَيَّ لَيْسَ بِظَالِمٍ.
وَهَاهُنَا لِلْعَبْدِ أَحَدَ عَشَرَ مَشْهَدًا فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْهِ. أَحَدُهَا: الْمَشْهَدُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ مَشْهَدُ الْقَدَرِ وَأَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. فَيَرَاهُ كَالتَّأَذِّي بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَانْقِطَاعِ الْأَمْطَارِ. فَإِنَّ الْكُلَّ أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ. فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَوَجَبَ وُجُودُهُ. وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ. وَإِذَا شَهِدَ هَذَا: اسْتَرَاحَ. وَعَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. فَمَا لِلْجَزَعِ مِنْهُ وَجْهٌ. وَهُوَ كَالْجَزَعِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ وَالْمَوْتِ.
الْمَشْهَدُ الثَّانِي: مَشْهَدُ الصَّبْرِ فَيَشْهَدُهُ وَيَشْهَدُ وُجُوبَهُ، وَحُسْنَ عَاقِبَتِهِ، وَجَزَاءَ أَهْلِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْغِبْطَةِ وَالسُّرُورِ. وَيُخَلِّصُهُ مِنْ نَدَامَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ. فَمَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَعْقَبَهُ ذَلِكَ نَدَامَةٌ. وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْبِرِ اخْتِيَارًا عَلَى هَذَا- وَهُوَ مَحْمُودٌ- صَبَرَ اضْطَرَارًا عَلَى أَكْبَرَ مِنْهُ. وَهُوَ مَذْمُومٌ.
الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ: مَشْهَدُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ فَإِنَّهُ مَتَى شَهِدَ ذَلِكَ وَفَضْلَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَعِزَّتَهُ: لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إِلَّا لِعَشًى فِي بَصِيرَتِهِ. فَإِنَّهُ مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْوُجُودِ. وَمَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ إِلَّا ذَلَّ. هَذَا، وَفِي الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ: مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ: مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.
الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ: مَشْهَدُ الرِّضَا وَهُوَ فَوْقَ مَشْهَدِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلنُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ، سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَا أُصِيبَتْ بِهِ سَبَبُهُ الْقِيَامُ لِلَّهِ. فَإِذَا كَانَ مَا أُصِيبَ بِهِ فِي اللَّهِ، وَفِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ: رَضِيَتْ بِمَا نَالَهَا فِي اللَّهِ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُحِبٍّ صَادِقٍ، يَرْضَى بِمَا يَنَالُهُ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ. وَمَتَى تَسَخَّطَ بِهِ وَتَشَكَّى مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ فِي مَحَبَّتِهِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ كَمَا قِيلَ: مِنْ أَجْلِكَ جَعَلْتُ خَدِّيَ أَرْضًا *** لِلشَّامِتِ وَالْحَسُودِ حَتَّى تَرْضَى وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا يُصِيبُهُ فِي سَبِيلِ مَحْبُوبِهِ، فَلْيَنْزِلْ عَنْ دَرَجَةِ الْمَحَبَّةِ. وَلْيَتَأَخَّرْ فَلَيْسَ مِنْ ذَا الشَّأْنِ.
الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ: مَشْهَدُ الْإِحْسَانِ وَهُوَ أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقَابِلَ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ. فَيُحْسِنَ إِلَيْهِ كُلَّمَا أَسَاءَ هُوَ إِلَيْهِ. وَيُهَوِّنُ هَذَا عَلَيْهِ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ قَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ حَسَنَاتِهِ، وَمَحَاهَا مِنْ صَحِيفَتِهِ. وَأَثْبَتَهَا فِي صَحِيفَةِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ. فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَشْكُرَهُ، وَتُحْسِنَ إِلَيْهِ بِمَا لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْكَ. وَهَاهُنَا يَنْفَعُ اسْتِحْضَارُ مَسْأَلَةِ اقْتِضَاءِ الْهِبَةِ الثَّوَابِ. وَهَذَا الْمِسْكِينُ قَدْ وَهَبَكَ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ فَأَثِبْهُ عَلَيْهَا، لِتُثْبِتَ الْهِبَةَ. وَتَأْمَنَ رُجُوعَ الْوَاهِبِ فِيهَا. وَفِي هَذَا حِكَايَاتٌ مَعْرُوفَةٌ عَنْ أَرْبَابِ الْمَكَارِمِ. وَأَهْلِ الْعَزَائِمِ. وَيُهَوِّنُهُ عَلَيْكَ أَيْضًا: عِلْمُكَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا عَمَلَكَ فِي إِسَاءَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَيْكَ عَفَوْتَ عَنْهُ. وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، مَعَ حَاجَتِكَ وَضَعْفِكَ وَفَقْرِكَ وَذَلِكَ. فَهَكَذَا يَفْعَلُ الْمُحْسِنُ الْقَادِرُ الْعَزِيزُ الْغَنِيُّ بِكَ فِي إِسَاءَتِكَ. يُقَابِلُهَا بِمَا قَابَلْتَ بِهِ إِسَاءَةَ عَبْدِهِ إِلَيْكَ. فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَشَاهِدُهُ فِي السُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا.
الْمَشْهَدُ السَّادِسُ: مَشْهَدُ السَّلَامَةِ وَبَرْدِ الْقَلْبِ وَهَذَا مَشْهَدٌ شَرِيفٌ جِدًّا لِمَنْ عَرَفَهُ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ. وَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَسِرُّهُ بِمَا نَالَهُ مِنَ الْأَذَى، وَطَلَبِ الْوُصُولِ إِلَى دَرْكِ ثَأْرِهِ، وَشِفَاءِ نَفْسِهِ. بَلْ يُفَرِّغُ قَلْبَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَيَرَى أَنَّ سَلَامَتَهُ وَبَرْدَهُ وَخُلُوَّهُ مِنْهُ أَنْفَعُ لَهُ. وَأَلَذُّ وَأَطْيَبُ. وَأَعْوَنُ عَلَى مَصَالِحِهِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ فَاتَهُ مَا هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْهُ. فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَغْبُونًا. وَالرَّشِيدُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ. وَيَرَى أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ. فَأَيْنَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنِ امْتِلَائِهِ بِالْغِلِّ وَالْوَسَاوِسِ، وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي إِدْرَاكِ الِانْتِقَامِ؟.
الْمَشْهَدُ السَّابِعُ: مَشْهَدُ الْأَمْنِ فَإِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمُقَابَلَةَ وَالِانْتِقَامَ: أَمِنَ مَاهُّو شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا انْتَقَمَ: وَاقَعَهُ الْخَوْفُ وَلَا بُدَّ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَزْرَعُ الْعَدَاوَةَ. وَالْعَاقِلُ لَا يَأْمَنُ عَدُوَّهُ، وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا. فَكَمْ مِنْ حَقِيرٍ أَرْدَى عَدُوَّهُ الْكَبِيرَ؟ فَإِذَا غَفَرَ، وَلَمْ يَنْتَقِمْ، وَلَمْ يُقَابِلْ: أَمِنَ مِنْ تَوَلُّدِ الْعَدَاوَةِ، أَوْ زِيَادَتِهَا. وَلَا بُدَّ أَنَّ عَفْوَهُ وَحِلْمَهُ وَصَفْحَهُ يَكْسِرُ عَنْهُ شَوْكَةَ عَدُوِّهِ. وَيَكُفُّ مِنْ جَزَعِهِ، بِعَكْسِ الِانْتِقَامِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ أَيْضًا.
الْمَشْهَدُ الثَّامِنُ: مَشْهَدُ الْجِهَادِ وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ تَوَلُّدَ أَذَى النَّاسِ لَهُ مِنْ جِهَادِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ. وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: قَدِ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ بِأَعْظَمِ الثَّمَنِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فَلْيُسَلِّمْ هُوَ السِّلْعَةَ لِيَسْتَحِقَّ ثَمَنَهَا. فَلَا حَقَّ لَهُ عَلَى مَنْ آذَاهُ. وَلَا شَيْءَ لَهُ قَبْلَهُ، إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِعَقْدِ هَذَا التَّبَايُعِ. فَإِنَّهُ قَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ سُكْنَى مَكَّةَ- أَعَزَّهَا اللَّهُ- وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ دَارَهُ وَلَا مَالَهُ الَّذِي أَخَذَهُ الْكُفَّارُ. وَلَمْ يُضَمِّنْهُمْ دِيَةَ مَنْ قَتَلُوهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمَّا عَزَمَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى تَضْمِينِ أَهْلِ الرِّدَّةِ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ. قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- تِلْكَ دِمَاءٌ وَأَمْوَالٌ ذَهَبَتْ فِي اللَّهِ. وَأُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ، وَلَا دِيَةَ لِشَهِيدٍ فَأَصْفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ. فَمَنْ قَامَ لِلَّهِ حَتَّى أُوذِيَ فِي اللَّهِ: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الِانْتِقَامَ. كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
الْمَشْهَدُ التَّاسِعُ: مَشْهَدُ النِّعْمَةِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي أَنْ جَعَلَهُ مَظْلُومًا يَتَرَقَّبُ النَّصْرَ. وَلَمْ يَجْعَلْهُ ظَالِمًا يَتَرَقَّبُ الْمَقْتَ وَالْأَخْذَ. فَلَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ –وَلَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاهُمَا- لَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ مِنْ خَطَايَاهُ. فَإِنَّهُ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا أَذًى إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ. فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ دَوَاءٌ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْهُ دَاءُ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ. وَمَنْ رَضِيَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِأَدْوَائِهِ كُلِّهَا وَأَسْقَامِهِ، وَلَمْ يُدَاوِهِ فِي الدُّنْيَا بِدَوَاءٍ يُوجِبُ لَهُ الشِّفَاءَ: فَهُوَ مَغْبُونٌ سَفِيهٌ. فَأَذَى الْخَلْقِ لَكَ كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ مِنَ الطَّبِيبِ الْمُشْفِقِ عَلَيْكَ. فَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ وَكَرَاهَتِهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى يَدَيْهِ. وَانْظُرْ إِلَى شَفَقَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي رَكَّبَهُ لَكَ، وَبَعَثَهُ إِلَيْكَ عَلَى يَدَيْ مَنْ نَفْعَكَ بِمَضَرَّتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ كَوْنَ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ أَهْوَنَ وَأَسْهَلَ مِنْ غَيْرِهَا. فَإِنَّهُ مَا مِنْ مِحْنَةٍ إِلَّا وَفَوْقَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا وَأَمَرُّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهَا مِحْنَةٌ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى سَلَامَةِ دِينِهِ وَإِسْلَامِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَأَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ دُونَ مُصِيبَةِ الدِّينِ فَهَيِّنَةٌ. وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ نِعْمَةٌ. وَالْمُصِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مُصِيبَةُ الدِّينِ. وَمِنْهَا: تَوَفِيَةُ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا يَوْمَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّهُ يَتَمَنَّى أُنَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ. هَذَا. وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَشْتَدُّ فَرَحُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا لَهُ قِبَلَ النَّاسِ مِنَ الْحُقُوقِ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْعِرْضِ. فَالْعَاقِلُ يَعُدُّ هَذَا ذُخْرًا لِيَوْمِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَلَا يُبْطِلُهُ بِالِانْتِقَامِ الَّذِي لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا.
الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ: مَشْهَدُ الْأُسْوَةِ وَهُوَ مَشْهَدٌ شَرِيفٌ لَطِيفٌ جِدًّا. فَإِنَّ الْعَاقِلَ اللَّبِيبَ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِرُسُلِ اللَّهِ، وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ. فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ امْتِحَانًا بِالنَّاسِ، وَأَذَى النَّاسِ إِلَيْهِمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ فِي الْحُدُورِ. وَيَكْفِي تَدَبُّرُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَعَ أُمَمِهِمْ وَشَأْنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى أَعْدَائِهِ لَهُ بِمَا لَمْ يُؤْذَهُ مَنْ قَبْلَهُ. وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَتُكَذَّبَنَّ وَلَتُخْرَجَنَّ وَلَتُؤْذَيَنَّ. وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي وَرَثَتِهِ كَمَا كَانَ فِي مُوَرِّثِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَفَلَا يَرْضَى الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِخِيَارِ خَلْقِ اللَّهِ، وَخَوَاصِّ عِبَادِهِ: الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ؟. وَمَنْ أَحَبَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَلْيَقِفْ عَلَى مِحَنِ الْعُلَمَاءِ، وَأَذَى الْجُهَّالِ لَهُمْ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابًا سَمَّاهُ مِحَنَ الْعُلَمَاءِ.
الْمَشْهَدُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَجَلُّ الْمَشَاهِدِ وَأَرْفَعُهَا. فَإِذَا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَمُعَامَلَتِهِ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ بِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ. وَسَكَنَ إِلَيْهِ. وَاشْتَاقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلِيًّا دُونَ مَنْ سِوَاهُ، بِحَيْثُ فَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا. وَرَضِيَ بِهِ وَبِأَقْضِيَتِهِ. وَفَنِيَ بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَذِكْرِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ: فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مُتَّسَعٌ لِشُهُودِ أَذَى النَّاسِ لَهُ أَلْبَتَّةَ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَفِكْرُهُ وَسِرُّهُ بِتَطَلُّبِ الِانْتِقَامِ وَالْمُقَابَلَةِ. فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَيُعَوِّضُهُ مِنْهُ. فَهُوَ قَلْبٌ جَائِعٌ غَيْرُ شَبْعَانَ. فَإِذَا رَأَى أَيَّ طَعَامٍ رَآهُ هَفَّتْ إِلَيْهِ نَوَازِعُهُ. وَانْبَعَثَتْ إِلَيْهِ دَوَاعِيهِ. وَأَمَّا مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِأَعْلَى الْأَغْذِيَةِ وَأَشْرَفِهَا: فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا دُونَهَا. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يَسْتَفِيدَ بِمَعْرِفَةِ أَقْدَارِ النَّاسِ، وَجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ: مَحَبَّتَهُمْ لَهُ، وَنَجَاتَهُمْ بِهِ. فَلِأَنَّهُ إِذَا عَامَلَهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ: مِنْ إِقَامَةِ أَعْذَارِهِمْ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَتَرْكِ مُقَابَلَتِهِمُ: اسْتَوَتْ كَرَاهَتُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ لَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَجَاتِهِمُ الْأُخْرَوِيَّةِ أَيْضًا. إِذْ يُرْشِدُهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْقَبُولِ مِنْهُ. وَتَلَقِّي مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ أَحْسَنَ التَّلَقِّي. هَذِهِ طِبَاعُ النَّاسِ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الْحَقِّ. وَتَحْسِينُهُ مِنْكَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي مِنْكَ يُوجِبُ عُذْرًا، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي مِنَ الْحَقِّ يُوجِبُ شُكْرًا، وَأَنْ لَا تَرَى لَهُ مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا. هَذِهِ الدَّرَجَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ نَاقِصٌ. وَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنَ النَّاقِصِ نَاقِصٌ. فَهُوَ يُوجِبُ اعْتِذَارَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ. فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَذَّرَ إِلَى رَبِّهِ مِنْ كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. أَمَّا الشَّرُّ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْخَيْرُ: فَيَعْتَذِرُ مِنْ نُقْصَانِهِ. وَلَا يَرَاهُ صَالِحًا لِرَبِّهِ. فَهُوَ- مَعَ إِحْسَانِهِ- مُعْتَذِرٌ فِي إِحْسَانِهِ. وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْوَجَلِ مِنْهُ مَعَ إِحْسَانِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ. وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ فَإِذَا خَافَ فَهُوَ بِالِاعْتِذَارِ أَوْلَى. وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: شُهُودُ تَقْصِيرِهِ وَنُقْصَانِهِ. وَالثَّانِي: صِدْقُ مَحَبَّتِهِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَحْبُوبِهِ بِغَايَةِ إِمْكَانِهِ. وَهُوَ مُعْتَذِرٌ إِلَيْهِ، مُسْتَحْيٍ مِنْهُ: أَنْ يُوَاجِهَهُ بِمَا وَاجَهَهُ بِهِ. وَهُوَ يَرَى أَنَّ قَدْرَهُ فَوْقَهُ وَأَجَلُّ مِنْهُ. وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِينَ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتِعْظَامُ كُلِّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْكَ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْكَ، وَأَنَّكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِهِ. وَلَا يَتَبَيَّنُ هَذَا إِلَّا فِي الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَسْتَكْثِرُ مِنْ مَحْبُوبِهِ كُلَّ مَا يَنَالُهُ. فَإِذَا ذَكَرَهُ بِشَيْءٍ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ: كَانَ سُرُورُهُ بِذِكْرِهِ لَهُ، وَتَأْهِيلِهِ لِعَطَائِهِ: أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ سُرُورِهِ بِذَلِكَ الْعَطَاءِ بَلْ يَغِيبُ بِسُرُورِهِ بِذِكْرِهِ لَهُ عَنْ سُرُورِهِ بِالْعَطِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُحِبُّ يَسُرُّهُ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ لَهُ، وَإِنْ نَالَهُ بِمَسَاءَةٍ. كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ *** لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا فَكَيْفَ إِذَا نَالَهُ مَحْبُوبُهُ بِمَسَرَّةٍ- وَإِنْ دَقَّتْ- فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا جَلِيلَةً خَطِيرَةً. فَكَيْفَ هَذَا مَعَ الرَّبِّ تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِي أَبَدًا إِلَّا بِالْخَيْرِ؟ وَيَسْتَحِيلُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ كَمَالِهِ. وَقَدْ أَفْصَحَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَيْ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ. وَلَا يُنْسَبُ إِلَيْكَ. وَلَا يَصْدُرُ مِنْكَ. فَإِنَّ أَسْمَاءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، وَصِفَاتِهِ كُلَّهَا كَمَالٌ، وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَضْلٌ وَعَدْلٌ، وَحِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ. فَبِأَيِّ وَجْهٍ يُنْسَبُ الشَّرُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنْهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ. وَلَهُ فِيهِ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ. قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا يَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا. يَعْنِي: أَنَّ مُعَامَلَتَكَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى الِاعْتِذَارِ مِنْ كُلِّ مَا مِنْكَ، وَالشُّكْرِ عَلَى مَا مِنْهُ- عَقْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمٌ لَكَ أَبَدًا، لَا تَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بِهِ بُدًّا. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ عَارِضٍ، وَحَالٍ يُحَوَّلُ. بَلْ عَقْدٌ لَازِمٌ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الْخُلُقِ. ثُمَّ الصُّعُودُ عَنْ تَفْرِقَةِ التَّخَلُّقِ. ثُمَّ التَّخَلُّقُ بِمُجَاوَزَةِ الْأَخْلَاقِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: تَصْفِيَةُ الْخُلُقِ بِتَكْمِيلِ مَا ذُكِرَ فِي الدَّرَجَتَيْنِ قَبْلَهُ. فَيُصَفِّيهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ وَقَذًى وَمُشَوِّشٍ. فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ صَعِدْتَ مِنْ تَفْرِقَتِهِ إِلَى جَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ. فَإِنَّ التَّخَلُّقَ وَالتَّصَوُّفَ تَهْذِيبٌ وَاسْتِعْدَادٌ لِلْجَمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ تَفْرِقَةً: لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالْغَيْرِ. وَالسُّلُوكُ يَقْتَضِي الْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِالرَّبِّ وَحْدَهُ عَمَّا سِوَاهُ. ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا بِأَنْ يَغِيبَ عَنِ الْخَلْقِ وَالتَّخَلُّقِ. وَهَذِهِ الْغَيْبَةُ لَهَا مَرْتَبَتَانِ عِنْدَهُمْ. إِحْدَاهُمَا: الِاشْتِغَالُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَالثَّانِيَةُ: الْفَنَاءُ فِي الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا حَضْرَةَ الْجَمْعِ وَهِيَ أَعْلَى الْغَايَاتِ عِنْدَهُمْ. وَهِيَ مَوْهِبِيَّةٌ لَا كَسَبِيَّةٌ. لَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَعَرَّضَ وَصَدَقَ فِي الطَّلَبِ: رُجِيَ لَهُ الظَّفَرُ بِمَطْلُوبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَدَارُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ، وَمَعَ الْخَلْقِ: عَلَى حَرْفَيْنِ. ذَكَرَهُمَا عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ فَقَالَ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ. وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ. فَتَأَمَّلْ. مَا أَجَلَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، مَعَ اخْتِصَارِهِمَا، وَمَا أَجْمَعَهُمَا لِقَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَلِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؟ وَفَسَادُ الْخُلُقِ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ تَوَسُّطِ الْخَلْقِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَوَسُّطِ النَّفْسِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. فَمَتَى عَزَلْتَ الْخَلْقَ- حَالَ كَوْنِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى- وَعَزَلْتَ النَّفْسَ- حَالَ كَوْنِكَ مَعَ الْخَلْقِ- فَقَدْ فُزْتَ بِكُلِّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ. وَحَامُوا حَوْلَهُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
[التَّوَاضُعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ التَّوَاضُعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أَيْ سَكِينَةً وَوَقَارًا مُتَوَاضِعِينَ، غَيْرَ أَشِرِينَ، وَلَا مَرِحِينَ وَلَا مُتَكَبِّرِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: عُلَمَاءُ حُلَمَاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَصْحَابُ وَقَارٍ وَعِفَّةٍ لَا يَسْفَهُونَ. وَإِنْ سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا. وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ فِي اللُّغَةِ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. وَالْهُونُ بِالضَّمِّ: الْهَوَانُ. فَالْمَفْتُوحُ مِنْهُ: صِفَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَالْمَضْمُومُ: صِفَةُ أَهْلِ الْكُفْرَانِ. وَجَزَاؤُهُمْ مِنَ اللَّهِ النِّيرَانُ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}. لَمَّا كَانَ الذُّلُّ مِنْهُمْ ذُلَّ رَحْمَةٍ وَعَطْفٍ وَشَفَقَةٍ وَإِخْبَاتٍ عَدَّاهُ بِأَدَاةِ عَلَى تَضْمِينًا لِمَعَانِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ. فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذُلَّ الْهَوَانِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلِيلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ ذُلُّ اللِّينِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلُولٌ، فَالْمُؤْمِنُ ذَلُولٌ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُؤْمِنِ كَالْجَمَلِ الذَّلُولِ. وَالْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ ذَلِيلٌ وَأَرْبَعَةٌ يَعْشَقُهُمُ الذُّلُّ أَشَدَّ الْعِشْقِ: الْكَذَّابُ. وَالنَّمَّامُ. وَالْبَخِيلُ. وَالْجَبَّارُ. وَقَوْلُهُ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هُوَ مِنْ عِزَّةِ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ. قَالَ عَطَاءٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وَهَذَا عَكْسُ حَالِ مَنْ قِيلَ فِيهِمْ: كِبْرًا عَلَيْنَا، وَجُبْنًا عَنْ عَدُوِّكُمُ *** لَبِئْسَتِ الْخِلَّتَانِ: الْكِبْرُ، وَالْجُبْنُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ. وَفِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَنَّ النَّارَ قَالَتْ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ؟ وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْعِزَّةُ إِزَارِي. وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي. فَمَنْ نَازَعَنِي عَذَّبْتُهُ. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي دِيوَانِ الْجَبَّارِينَ. فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ عَلَى الصِّبْيَانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَتِ الْأَمَةُ تَأْخُذُ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ قَطُّ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ الشَّاةَ لِأَهْلِهِ، وَيَعْلِفُ الْبَعِيرَ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ. وَيُجَالِسُ الْمَسَاكِينَ، وَيَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ فِي حَاجَتِهِمَا، وَيَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ. وَلَوْ إِلَى أَيْسَرِ شَيْءٍ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَيِّنَ الْمُؤْنَةِ، لَيِّنَ الْخُلُقِ. كَرِيمَ الطَّبْعِ. جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ. طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ، جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا بِكُلِّ مُسْلِمٍ خَافِضَ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمْ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ- أَوْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ- تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ- أَوْ كُرَاعٍ- لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ- أَوْ كُرَاعٌ- لَقَبِلْتُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ. وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ. وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ. وَكَانَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ.
سُئِلَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ التَّوَاضُعِ؟ مَعْنَاهُ فَقَالَ: يَخْضَعُ لِلْحَقِّ، وَيَنْقَادُ لَهُ. وَيَقْبَلُهُ مِمَّنْ قَالَهُ. وَقِيلَ: التَّوَاضُعُ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِكَ قِيمَةً. فَمَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً فَلَيْسَ لَهُ فِي التَّوَاضُعِ نَصِيبٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُضَيْلِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: هُوَ خَفْضُ الْجَنَاحِ، وَلِينُ الْجَانِبِ. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: هُوَ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ مَقَامًا وَلَا حَالًا. وَلَا يَرَى فِي الْخَلْقِ شَرًّا مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: هُوَ قَبُولُ الْحَقِّ مِمَّنْ كَانَ. وَالْعِزُّ فِي التَّوَاضُعِ. فَمَنْ طَلَبَهُ فِي الْكِبْرِ فَهُوَ كَتَطَلُّبِ الْمَاءِ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ: الشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ. وَالْعِزُّ فِي التَّقْوَى. وَالْحُرِّيَّةُ فِي الْقَنَاعَةِ. وَيُذْكَرُعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ قَالَ: أَعَزُّ الْخَلْقِ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ: عَالِمٌ زَاهِدٌ وَفَقِيهٌ صُوفِيٌّ. وَغَنِيٌّ مُتَوَاضِعٌ. وَفَقِيرٌ شَاكِرٌ. وَشَرِيفٌ سُنِّيٌّ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَاتِقِهِ قِرْبَةُ مَاءٍ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَنْبَغِي لَكَ هَذَا. فَقَالَ: لَمَّا أَتَانِيَ الْوُفُودُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ. دَخَلَتْ نَفْسِي نَخْوَةٌ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَهَا. وَوَلِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِمَارَةً مَرَّةً. فَكَانَ يَحْمِلُ حِزْمَةَ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ. وَيَقُولُ: طَرِّقُوا لِلْأَمِيرِ. وَرَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَرَّةً. فَدَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ لِيَأْخُذَ بِرِكَابِهِ. فَقَالَ: مَهْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ! فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِكُبَرَائِنَا. فَقَالَ: أَرِنِي يَدَكَ. فَأَخْرَجَهَا إِلَيْهِ فَقَبَّلَهَا. فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا نَفْعَلُ بِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَسَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حُلَلًا، فَبَعَثَ إِلَى مُعَاذٍ حُلَّةً مُثَمَّنَةً. فَبَاعَهَا. وَاشْتَرَى بِثَمَنِهَا سِتَّةَ أَعْبُدٍ وَأَعْتَقَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حُلَّةً دُونَهَا. فَعَاتَبَهُ مُعَاذٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لِأَنَّكَ بِعْتَ الْأُولَى. فَقَالَ مُعَاذٌ: وَمَا عَلَيْكَ؟ ادْفَعْ لِي نَصِيبِي. وَقَدْ حَلَفْتُ لَأَضْرِبَنَّ بِهَا رَأْسَكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأْسِي بَيْنَ يَدَيْكَ. وَقَدْ يَرْفُقُ الشَّابُّ بِالشَّيْخِ. وَمَرَّ الْحَسَنُ عَلَى صِبْيَانٍ مَعَهُمْ كِسَرُ خُبْزٍ. فَاسْتَضَافُوهُ. فَنَزَلَ فَأَكَلَ مَعَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ إِلَى مَنْزِلِهِ. فَأَطْعَمَهُمْ وَكَسَاهُمْ، وَقَالَ: الْيَدُ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ شَيْئًا غَيْرَ مَا أَطْعَمُونِي، وَنَحْنُ نَجِدُ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَيُذْكَرُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَيَّرَ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِهِ، ثُمَّ نَدِمَ. فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ. فَحَلَفَ: لَا رَفَعْتُ رَأْسِي حَتَّى يَطَأَ بِلَالٌ خَدِّي بِقَدَمِهِ. فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى فَعَلَ بِلَالٌ. وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ. قَوَّمْتُ ثِيَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ يَخْطُبُ- بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَكَانَتْ قِبَاءً وَعِمَامَةً وَقُمُصًا وَسَرَاوِيلَ وَرِدَاءً وَخُفَّيْنِ وَقَلَنْسُوَةً. وَرَأَى مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ ابْنًا لَهُ يَمْشِي مِشْيَةً مُنْكَرَةً. فَقَالَ: تَدْرِي بِكَمْ شَرَيْتُ أُمَّكَ؟ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَبُوكَ- لَا كَثَّرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَهُ- أَنَا. وَأَنْتَ تَمْشِي هَذِهِ الْمِشْيَةَ؟. وَقَالَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ: التَّوَاضُعُ أَنْ لَا تَرَى لِأَحَدٍ إِلَى نَفْسِكَ حَاجَةً، لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَا سُرِرْتُ فِي إِسْلَامِي إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: كُنْتُ فِي سَفِينَةٍ، وَفِيهَا رَجُلٌ مِضْحَاكٌ. كَانَ يَقُولُ: كُنَّا فِي بِلَادِ التُّرْكِ فَأَخَذَ الْعِلْجُ هَكَذَا- وَكَانَ يَأْخُذُ بِشَعَرِ رَأْسِي وَيَهُزُّنِي- لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ أَحَدٌ أَحْقَرُ مِنِّي. وَالْأُخْرَى: كُنْتُ عَلِيلًا فِي مَسْجِدٍ. فَدَخَلَ الْمُؤَذِّنُ، وَقَالَ: اخْرُجْ. فَلَمْ أُطِقْ، فَأَخَذَ بِرِجْلِي وَجَرَّنِي إِلَى خَارِجٍ. وَالْأُخْرَى: كُنْتُ بِالشَّامِ وَعَلَيَّ فَرْوٌ. فَنَظَرْتُ فِيهِ فَلَمْ أُمَيِّزْ بَيْنَ شَعَرِهِ وَبَيْنَ الْقَمْلِ لِكَثْرَتِهِ. فَسَرَّنِي ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا. فَجَاءَ إِنْسَانٌ فَبَالَ عَلَيَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ رَجُلًا بَيْنَ يَدَيْهِ شَاكِرِيَّةٌ يَمْنَعُونَ النَّاسَ لِأَجْلِهِ عَنِ الطَّوَافِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ يَسْأَلُ شَيْئًا. فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ. فَقَالَ لِي: إِنِّي تَكَبَّرْتُ فِي مَوْضِعٍ يَتَوَاضَعُ النَّاسُ فِيهِ، فَابْتَلَانِي اللَّهُ بِالذُّلِّ فِي مَوْضِعٍ يَتَرَفَّعُ النَّاسُ فِيهِ. وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ ابْنًا لَهُ اشْتَرَى خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ فَصًّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَبِعِ الْخَاتَمَ. وَأَشْبِعْ بِهِ أَلْفَ بَطْنٍ. وَاتَّخِذْ خَاتَمًا بِدِرْهَمَيْنِ. وَاجْعَلْ فَصَّهُ حَدِيدًا صِينِيًّا. وَاكْتُبْ عَلَيْهِ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَوَّلُ ذَنْبٍ عَصَى اللَّهَ بِهِ أَبَوَا الثَّقَلَيْنِ: الْكِبْرُ وَالْحِرْصُ ذَمَّهُمَا. فَكَانَ الْكِبْرُ ذَنْبَ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ. فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ. وَذَنْبُ آدَمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ مِنَ الْحِرْصِ وَالشَّهْوَةِ. فَكَانَ عَاقِبَتُهُ التَّوْبَةَ وَالْهِدَايَةَ، وَذَنَبُ إِبْلِيسَ حَمَلَهُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ وَالْإِصْرَارِ. وَذَنْبُ آدَمَ أَوْجَبَ لَهُ إِضَافَتَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالِاعْتِرَافَ بِهِ وَالِاسْتِغْفَارَ. فَأَهْلُ الْكِبْرِ وَالْإِصْرَارِ، وَالِاحْتِجَاجِ بِالْأَقْدَارِ: مَعَ شَيْخِهِمْ وَقَائِدِهِمْ إِلَى النَّارِ إِبْلِيسَ. وَأَهْلُ الشَّهْوَةِ: الْمُسْتَغْفِرُونَ التَّائِبُونَ الْمُعْتَرِفُونَ بِالذُّنُوبِ، الَّذِينَ لَا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهَا بِالْقَدَرِ: مَعَ أَبِيهِمْ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: التَّكَبُّرُ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ فَإِنَّ الْمُتَكَبِّرَ يَتَكَبَّرُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُشْرِكَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ. قُلْتُ: وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ النَّارَ دَارَ الْمُتَكَبِّرِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} وَفِي سُورَةِ تَنْزِيلُ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}. وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِبْرِ وَالتَّجَبُّرِ هُمُ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ. وَغَمْطُ النَّاسِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الْكِبْرَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ، وَكَمَا أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ تَكَبَّرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ أَذَلَّهُ اللَّهُ وَوَضَعَهُ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ. وَمَنْ تَكَبَّرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ- وَلَوْ جَاءَهُ عَلَى يَدِ صَغِيرٍ، أَوْ مَنْ يُبْغِضُهُ أَوْ يُعَادِيهِ- فَإِنَّمَا تَكَبُّرُهُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. وَكَلَامُهُ حَقٌّ. وَدِينُهُ حَقٌّ. وَالْحَقُّ صِفَتُهُ. وَمِنْهُ وَلَهُ. فَإِذَا رَدَّهُ الْعَبْدُ وَتَكَبَّرَ عَنْ قَبُولِهِ: فَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى اللَّهِ، وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": التَّوَاضُعُ تَعْرِيفُهُ: أَنْ يَتَوَاضَعَ الْعَبْدُ لِصَوْلَةِ الْحَقِّ. يَعْنِي: أَنْ يَتَلَقَّى سُلْطَانَ الْحَقِّ بِالْخُضُوعِ لَهُ، وَالذُّلِّ، وَالِانْقِيَادِ، وَالدُّخُولِ تَحْتَ رِقِّهِ. بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ مُتَصَرِّفًا فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مَمْلُوكِهِ. فَبِهَذَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ خُلُقُ التَّوَاضُعِ. وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرَ بِضِدِّهِ. فَقَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ , فَبَطَرُ الْحَقِّ: رَدُّهُ وَجَحْدُهُ، وَالدَّفْعُ فِي صَدْرِهِ. كَدَفْعِ الصَّائِلِ. وَغَمْصُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ. وَمَتَى احْتَقَرَهُمْ وَازْدَرَاهُمْ: دَفَعَ حُقُوقَهُمْ. وَجَحَدَهَا، وَاسْتَهَانَ بِهَا. وَلَمَّا كَانَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ وَصَوْلَةٌ: كَانَتِ النُّفُوسُ الْمُتَكَبِّرَةُ لَا تَقَرُّ لَهُ بِالصَّوْلَةِ عَلَى تِلْكَ الصَّوْلَةِ الَّتِي فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا النُّفُوسَ الْمُبْطِلَةَ. فَتَصُولُ عَلَى صَوْلَةِ الْحَقِّ بِكِبْرِهَا وَبَاطِلِهَا. فَكَانَ حَقِيقَةُ التَّوَاضُعِ: خُضُوعَ الْعَبْدِ لِصَوْلَةِ الْحَقِّ، وَانْقِيَادَهُ لَهَا. فَلَا يُقَابِلُهَا بِصَوْلَتِهِ عَلَيْهَا.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ. وَهُوَ أَنْ لَا يُعَارِضَ بِمَعْقُولٍ مَنْقُولًا. وَلَا يَتَّهِمَ لِلدِّينِ دَلِيلًا. وَلَا يَرَى إِلَى الْخِلَافِ سَبِيلًا. التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ، هُوَ الِانْقِيَادُ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ، وَالْإِذْعَانُ. وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُعَارِضَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُعَارَضَاتِ الْأَرْبَعَةِ السَّارِيَةِ فِي الْعَالَمِ، الْمُسَمَّاةِ: بِالْمَعْقُولِ، وَالْقِيَاسِ، وَالذَّوْقِ، وَالسِّيَاسَةِ. فَالْأُولَى: لِلْمُنْحَرِفِينَ أَهْلِ الْكِبْرِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، الَّذِينَ عَارَضُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ بِمَعْقُولَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ. وَقَالُوا: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ: قَدَّمْنَا الْعَقْلَ. وَعَزَلْنَا النَّقْلَ. إِمَّا عَزْلَ تَفْوِيضٍ، وَإِمَّا عَزْلَ تَأْوِيلٍ. وَالثَّانِي: لِلْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ، قَالُوا: إِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسُ وَالرَّأْيُ وَالنُّصُوصُ: قَدَّمْنَا الْقِيَاسَ عَلَى النَّصِّ. وَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: لِلْمُتَكَبِّرِينَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ. فَإِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُمُ الذَّوْقُ وَالْأَمْرُ. قَدَّمُوا الذَّوْقَ وَالْحَالَ. وَلَمْ يَعْبَأُوا بِالْأَمْرِ. وَالرَّابِعُ: لِلْمُتَكَبِّرِينَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ الْجَائِرِينَ. إِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمُ الشَّرِيعَةُ وَالسِّيَاسَةُ. قَدَّمُوا السِّيَاسَةَ. وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى حُكْمِ الشَّرِيعَةِ. فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ: هُمْ أَهْلُ الْكِبْرِ. وَالتَّوَاضُعُ: التَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَّهِمَ دَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَظُنُّهُ فَاسِدَ الدَّلَالَةِ، أَوْ نَاقِصَ الدَّلَالَةِ، أَوْ قَاصِرَهَا، أَوْ أَنَّ غَيْرَهُ كَانَ أَوْلَى مِنْهُ. وَمَتَى عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَتَّهِمْ فَهْمَهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْآفَةَ مِنْهُ، وَالْبَلِيَّةَ فِيهِ، كَمَا قِيلَ: وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا *** وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ وَلَكِنْ تَأْخُذُ الْأَذْهَانُ مِنْهُ *** عَلَى قَدْرِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ وَهَكَذَا الْوَاقِعُ فِي الْوَاقِعِ حَقِيقَةً: أَنَّهُ مَا اتَّهَمَ أَحَدٌ دَلِيلًا لِلدِّينِ إِلَّا وَكَانَ الْمُتَّهَمُ هُوَ الْفَاسِدَ الذِّهْنِ. الْمَأْفُونَ فِي عَقْلِهِ، وَذِهْنِهِ. فَالْآفَةُ مِنَ الذِّهْنِ الْعَلِيلِ. لَا فِي نَفْسِ الدَّلِيلِ. وَإِذَا رَأَيْتَ مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ مَا يُشْكَلُ عَلَيْكَ، وَيَنْبُو فَهْمُكَ عَنْهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِعَظَمَتِهِ وَشَرَفِهِ اسْتَعْصَى عَلَيْكَ، وَأَنَّ تَحْتَهُ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْعِلْمِ. وَلَمْ تُؤْتَ مِفْتَاحَهُ بَعْدُ. هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِكَ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِكَ: فَاتَّهِمْ آرَاءَ الرِّجَالِ عَلَى نُصُوصِ الْوَحْيِ، وَلْيَكُنْ رَدُّهَا أَيْسَرَ شَيْءٍ عَلَيْكَ لِلنُّصُوصِ، فَمَا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَسْتَ عَلَى شَيْءٍ. وَلَوْ.. وَلَوْ.. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَجِدَ إِلَى خِلَافِ النَّصِّ سَبِيلًا أَلْبَتَّةَ. لَا بِبَاطِنِهِ، وَلَا بِلِسَانِهِ وَلَا بِفِعْلِهِ. وَلَا بِحَالِهِ. بَلْ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْخِلَافِ: فَهُوَ كَخِلَافِ الْمُقْدِمِ عَلَى الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ. بَلْ هَذَا الْخِلَافُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ دَاعٍ إِلَى النِّفَاقِ. وَهُوَ الَّذِي خَافَهُ الْكِبَارُ. وَالْأَئِمَّةُ عَلَى نُفُوسِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ- لِقَوْلِ مَتْبُوعِهِ وَشَيْخِهِ وَمُقَلِّدِهِ، أَوْ لِرَأْيِهِ وَمَعْقُولِهِ، وَذَوْقِهِ، وَسِيَاسَتِهِ. إِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْذُورًا، وَلَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَعْذُورٍ- فَالْمُخَالِفُ لِقَوْلِهِ، لِنُصُوصِ الْوَحْيِ أَوْلَى بِالْعُذْرِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ. وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ. فَوَاعَجَبًا إِذَا اتَّسَعَ بُطْلَانُ الْمُخَالِفِينَ لِلنُّصُوصِ لِعُذْرِ مَنْ خَالَفَهَا تَقْلِيدًا، أَوْ تَأْوِيلًا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَيْفَ ضَاقَ عَنْ عُذْرِ مَنْ خَالَفَ أَقْوَالَهُمْ، وَأَقْوَالَ شُيُوخِهِمْ. لِأَجْلِ مُوَافَقَةِ النُّصُوصِ؟ وَكَيْفَ نَصَبُوا لَهُ الْحَبَائِلَ. وَبَغَوْهُ الْغَوَائِلَ. وَرَمَوْهُ بِالْعَظَائِمِ. وَجَعَلُوهُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ؟ فَرَمَوْهُ بِدَائِهِمْ وَانْسَلُّوا مِنْهُ لِوَاذًا. وَقَذَفُوهُ بِمُصَابِهِمْ. وَجَعَلُوا تَعْظِيمَ الْمَتْبُوعِينَ مَلَاذًا لَهُمْ وَمَعَاذًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْبَصِيرَةِ، وَالِاسْتِقَامَةَ بَعْدَ الثِّقَةِ. وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَرَاءَ الْحُجَّةِ. يَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلدِّينِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: الْأُولَى: عِلْمُهُ أَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الشَّقَاءِ وَالضَّلَالِ: إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَصِيرَةِ. فَمَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ: فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا. وَالشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْبَصِيرَةُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي عَيْنِ الْقَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ: كَنِسْبَةِ ضَوْءِ الْعَيْنِ إِلَى الْعَيْنِ. وَهَذِهِ الْبَصِيرَةُ وَهْبِيَّةٌ وَكَسَبِيَّةُ. فَمَنْ أَدَارَ النَّظَرَ فِي أَعْلَامِ الْحَقِّ وَأَدِلَّتِهِ، وَتَجَرَّدَ لِلَّهِ مِنْ هَوَاهُ: اسْتَنَارَتْ بَصِيرَتُهُ. وَرُزِقَ فُرْقَانًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الثِّقَةِ، أَيْ لَا يَتَصَوَّرُ حُصُولَ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ، إِلَّا بَعْدَ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ مَا مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَأَنَّهُ مُقْتَبِسٌ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا ثِقَةَ لَهُ وَلَا اسْتِقَامَةَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ وَرَاءَ الْحُجَّةِ. وَالْبَيِّنَةُ مُرَادُهُ بِهَا: اسْتِبَانَةُ الْحَقِّ وَظُهُورُهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحُجَّةِ إِذَا قَامَتِ اسْتَبَانَ الْحَقُّ وَظَهَرَ وَاتَّضَحَ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ. وَهُوَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَبِلَ حُجَّةَ اللَّهِ بِمَحْضِ الْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ: كَانَ هَذَا الْقَبُولُ هُوَ سَبَبَ تَبْيُّنِهَا وَظُهُورِهَا، وَانْكِشَافِهَا لِقَلْبِهِ. فَلَا يَصْبِرُ عَلَى بَيِّنَةِ رَبِّهِ إِلَّا بَعْدَ قَبُولِ حُجَّتِهِ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أَيْضًا: أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ عَيْبُ عَمَلِهِ مِنْ صِحَّتِهِ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ. فَإِذَا عَرَفَ الْحُجَّةَ اتَّضَحَ لَهُ بِهَا مَا كَانَ مُشْكَلًا عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِهِ، وَمَا كَانَ مَعِيبًا مِنْ أَعْمَالِهِ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أَيْضًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ " وَرَاءَ " بِمَعْنَى أَمَامَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ بَعْدَ تَبَيُّنِهَا. فَإِذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ. يَعْنِي فَلَا يَقْنَعُ مِنَ الْحُجَّةِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِهَا بِلَا تَبَيُّنٍ. فَإِنَّ التَّبَيُّنَ أَمَامَ الْحُجَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْضَى بِمَا رَضِيَ الْحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ عَبْدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخًا. وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا. وَأَنْ تَقْبَلَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ. يَقُولُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. أَفَلَا تَرْضَى أَنْتَ بِهِ أَخًا؟ فَعَدَمُ رِضَاكَ بِهِ أَخًا- وَقَدْ رَضِيَهُ سَيِّدُكَ الَّذِي أَنْتَ عَبْدُهُ عَبْدًا لِنَفْسِهِ- عَيْنُ الْكِبْرِ. وَأَيُّ قَبِيحٍ أَقْبَحُ مِنْ تَكَبُّرِ الْعَبْدِ عَلَى عَبْدٍ مِثْلِهِ، لَا يَرْضَى بِأُخُوَّتِهِ. وَسَيِّدُهُ رَاضٍ بِعُبُودِيَّتِهِ؟. فَيَجِيءُ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ غَيْرُ رَاضٍ بِعُبُودِيَّةِ سَيِّدِهِ. إِذْ عُبُودِيَّتُهُ تُوجِبُ رِضَاهُ بِأُخُوَّةِ عَبْدِهِ. وَهَذَا شَأْنُ عَبِيدِ الْمُلُوكِ. فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ بَعْضَهُمْ خُشْدَاشِيَّةَ بَعْضٍ. وَمَنْ تَرَفَّعَ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ عَبِيدِ أُسْتَاذِهِمْ. قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا. أَيْ لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ وَمِمَّنْ تُبْغِضُ فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ. وَإِذَا لَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَكَيْفَ تَمْنَعُهُ حَقًّا لَهُ قِبَلَكَ؟ بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَاضُعِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَكَ قَبِلْتَهُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْكَ حَقٌّ أَدَّيْتَهُ إِلَيْهِ. فَلَا تَمْنَعُكَ عَدَاوَتُهُ مِنْ قَبُولِ حَقِّهِ، وَلَا مِنْ إِيتَائِهِ إِيَّاهُ. وَأَمَّا قَبُولُكَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ. فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. ثُمَّ جَاءَ يَعْتَذِرُ مِنْ إِسَاءَتِهِ، فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، حَقًّا كَانَتْ أَوْ بَاطِلًا. وَتَكِلُ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْغَزْوِ. فَلَمَّا قَدِمَ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ. فَقَبِلَ أَعْذَارَهُمْ. وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَامَةُ الْكَرَمِ وَالتَّوَاضُعِ: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْخَلَلَ فِي عُذْرِهِ لَا تُوقِفُهُ عَلَيْهِ وَلَا تُحَاجُّهُ. وَقُلْ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ. وَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ، وَالْمَقْدُورُ لَا مَدْفَعَ لَهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ. فَتَنْزِلَ عَنْ رَأْيِكَ وَعَوَائِدِكَ فِي الْخِدْمَةِ وَرُؤْيَةِ حَقِّكَ فِي الصُّحْبَةِ. وَعَنْ رَسْمِكَ فِي الْمُشَاهَدَةِ. بِقَوْلِ التَّوَاضُعِ بِأَنْ تَخْدِمَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ. وَتَعْبُدَهُ بِمَا أَمَرَكَ بِهِ، عَلَى مُقْتَضَى أَمْرِهِ. لَا عَلَى مَا تَرَاهُ مِنْ رَأْيِكَ. وَلَا يَكُونَ الْبَاعِثُ لَكَ دَاعِيَ الْعَادَةِ. كَمَا هُوَ بَاعِثُ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتَادَ أَمْرًا فَجَرَى عَلَيْهِ. وَلَوِ اعْتَادَ ضِدَّهُ لَكَانَ كَذَلِكَ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَاعِثُهُ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ مُجَرَّدَ رَأْيٍ، وَمُوَافَقَةَ هَوًى وَمَحَبَّةٍ وَعَادَةٍ. بَلِ الْبَاعِثُ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ. وَالرَّأْيُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْهَوَى وَالْعَوَائِدُ: مُنَفِّذَةٌ تَابِعَةٌ. لَا أَنَّهَا مُطَاعَةٌ بَاعِثَةٌ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَا يَتَنَبَّهُ لَهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ. وَأَمَّا نُزُولُهُ عَنْ رُؤْيَةِ حَقِّهِ فِي الصُّحْبَةِ. فَمَعْنَاهُ: أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ. فَإِنَّ صُحْبَتَهُ مَعَ اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ الْمَحْضِ، وَالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ. فَمَتَى رَأَى لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقًّا فَسَدَتِ الصُّحْبَةُ. وَصَارَتْ مَعْلُولَةً وَخِيفَ مِنْهَا الْمَقْتُ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا أَحَقَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ إِثَابَةِ عَابِدِيهِ وَإِكْرَامِهِمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ. لَا بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبِيدِ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهُ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِمْ. فَعَلَيْكَ بِالْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مُفْتَرَقُ الطُّرُقِ. وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ. فِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَقَلُّ وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَى رَبِّهِ حَقًّا. فَقَالَتْ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. وَأَنْكَرَتْ وُجُوبَ مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ. وَفِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُمُورًا لِعَبْدِهِ. فَظَنَّتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ سَبَبًا لِهَذَا الْإِيجَابِ. وَالْفِرْقَتَانِ غَالِطَتَانِ. وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: أَهْلُ الْهُدَى وَالصَّوَابِ، قَالَتْ: لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ بِسَعْيِهِ نَجَاةً وَلَا فَلَاحًا. وَلَا يُدْخِلُ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَلَا يُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهُ تَعَالَى- بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَمَحْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ- أَكَّدَ إِحْسَانَهُ وَجُودَهُ وَبِرَّهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ. فَإِنَّ وَعْدَ الْكَرِيمِ إِيجَابٌ، وَلَوْ بِـعَسَى، وَلَعَلَّ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ. وَوَعْدُ اللَّئِيمِ خُلْفٌ. وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الْعَهْدُ وَالْحَلِفُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ عَدَمَ رُؤْيَةِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَجَعَلَهُ حَقًّا لِعَبْدِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ: أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِالنَّارِ. فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ مَا لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ سَعْيٌ. كَمَا قِيلَ: مَا لِلْعِبَـادِ عَلَيْهِ حَـقٌّ وَاجِـبٌ *** كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِــعُ إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أَوْ نُعِّمُــوا *** فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِـعُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَنْزِلُ عَنْ رَسْمِكَ فِي الْمُشَاهَدَةِ. أَيْ مِنْ جُمْلَةِ التَّوَاضُعِ لِلْحَقِّ: فَنَاؤُكَ عَنْ نَفْسِكَ. فَإِنَّ رَسْمَهُ هِيَ نَفْسُهُ. وَالنُّزُولُ عَنْهَا: فَنَاؤُهُ عَنْهَا حِينَ شُهُودِهِ الْحَضْرَةَ. وَهَذَا النُّزُولُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرَ كَسْبِيٍّ. لِأَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ التَّجَلِّي. وَالتَّجَلِّي نُورٌ. وَالنُّورُ يَقْهَرُ الظُّلْمَةَ وَيُبْطِلُهَا. وَالرَّسْمُ عِنْدَ الْقَوْمِ ظُلْمَةٌ. فَهِيَ تَنْفِرُ مِنَ النُّورِ بِالذَّاتِ. فَصَارَ النُّزُولُ عَنِ الرَّسْمِ حِينَ التَّجَلِّي ذَاتِيًّا. وَوَجْهُ كَوْنِهِ كَسْبِيًّا: أَنَّهُ نَتِيجَةُ الْمَقَامَاتِ الْكَسْبِيَّةِ. وَنَتِيجَةُ الْكَسْبِيِّ كَسْبِيٌّ. وَثَمَرَتُهُ، وَإِنْ حَصَلَتْ ضَرُورَةً بِالذَّاتِ: لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا كَوْنُهَا كَسَبِيَّةً بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|